مقدمة .I
ولد محمد عثمان الصيد، ورئيس وزراء ليبيا في العهد الملكي من سنة 1960 – 1963، بقرية الزوية متصرفية براك بمنطقة الشاطئ إقليم فزان، يوم السابع عشر من شعبان 1343 هجرية الموافق للسابع من أكتوبر 1924. انتقل إلى رحمة الله صباح يوم الاثنين الحادي والثلاثين من ديسمبر للعام 2007 الموافق للعشرين من ذي الحجة 1428 بمنزله بالرباط ،عن عمر يناهز الأربع وثمانين عاما. قضى منها إحدى وستون عام في خدمة الوطن والجهاد في سبيله والإيثارله.
نشأته .II
نشأ محمد عثمان الصيد على يد والده أحمد البدوي، القاضي الشرعي ورئيس المحكمة الشرعية بالشاطئ ووالدته هي فاطمة نوير. التحق بالكتّاب ” المحضرة ” سنة 1928، و في عام 1937 انتقل إلى ” الزاوية” وحلقات التدريس في المسجد حيث أتم حفظ القرآن الكريم وعمره ” ثلاثة عشر سنة. تتلمذ على يد ثلة من الفقهاء والمشايخ وعكف على دراسة أصول الفقه والفرائض والمتن والعبادات وعلوم التوحيد، ومطالعة الكثير من التفاسير في العلوم الدينية وفي التاريخ والأدب وعلم الحساب.
كانت الكتاتيب هي الخيار الوحيد لتلقي العلوم في إقليم فزان، حيث رفض السكان دخول أبنائهم المدارس الابتدائية التي أنشأها الاستعمار الإيطالي في مناطق محددة في المتصرفيات وبعض المديريات. وظل إقليم فزان يرزح تحت الحكم الإيطالي العسكري طوال ثلاثة عشر عاما إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية. إذ تقسيم النفوذ والحكم بأقاليم ليبيا، حيث خضع إقليمي برقة وطرابلس لحكم الانتداب البريطاني في حين خضع إقليم فزان الحكم العسكري الفرنسي .
العمل الوطني .III
لطالما تساءل محمد عثمان الصيد، في طفولته و شبابه، عن وجود الاستعمار ورفضه التعامل معه. فبدأ العمل الوطني في سن مبكرة بإقليم فزان عام 1945 حيث انضم للحركة الوطنية ضد الاستعمار والتي كانت تحت قيادات وطنية من ضمنهم والده السيد أحمد البدوي الصيد، فقد كان رسولهم إلى طرابلس للبحث والتحري عما كان يخطط لليبيا بصورة عامة مع قادة الأحزاب والجمعيات الوطنية في طرابلس وبرقة.
أسس في منتصف أربعينيات القرن الماضي، جمعية سرية لمقاومة الاستعمار الفرنسي الذي كان يعاني منه إقليم فزان بعد الحرب العالمية الثانية. و هكذا، انتخب كل من العلامة الشيخ عبد الرحمن البركولي رئيسا للجمعية و محمد عثمان الصيد نائبا له. وقد كان الهدف من الجمعية العمل بالطرق السلمية على نيل استقلال فزان وانضمامها إلى كل من إقليمي طرابلس وبرقة ، لتشكيل ليبيا موحدة تحت قيادة الملك إدريس السنوسي رحمه الله.
وعند زيارة الوفد الرباعي المكون من ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا لليبيا للتعرف على آراء المواطنين حول الاستقلال، نظم محمدعثمان الصيد وزملاؤه تجمعا بمنطقة الشاطئ لاستقبال الوفد عند قدومه إلى فزان ورفعوا بحماس تلك المطالب. و بمجرد مغادرة الوفد الرباعي، جاء المتصرف العسكري الفرنسي ببراك إلى محمد عثمان الصيد وهدده بانه سوف يجني شر ما زرع.
وبالفعل استغلت القوات الفرنسية حادثة هجوم السيد عبد القادر بن مسعود على القلعة العسكرية الفرنسية بسبها، وألقت القبض على محمد عثمان الصيد سنة 1948 وإذاقته أشد أنواع التعذيب، إلا أن محنته هذه انتهت سنة 1950 عندما قررت الأمم المتحدة استقلال ليبيا وتعيين موفد خاص هو السيد أدريان بيلت الذي قابل محمد عثمان الصيد في سجنه وأوصى بإطلاق سراحه.
العمل السياسي قبل الستقلال .IV
بمجرد أن عاود محمد عثمان الصيد معانقة الحرية، انخرط في العمل السياسي. حيث عين عضوا في لجنة الواحد والعشرين والهيئة الاستشارية والجمعية التأسيسية التي وضعت أول دستور لليبيا وأعلنت الاستقلال في 24 ديسمبر 1951 باسم المملكة الليبية المتحدة. وقد كان محمد عثمان الصيد أصغر الأعضاء سنا وهو من تلا إعلان البيعة للملك إدريس ياسم اعضاء اللجنة التأسيسية.
العمل السياسي بعد الاستقلال .V
عند استقلال ليبيا تولى محمد عثمان الصيد وزارة الصحة لمدة سبعة سنوات في كل من حكومتي السيدين محمود المنتصر رحمه الله من سنة 1951 إلى سنة 1954 مصطفى بن حليم رحمه الله من سنة 1954 إلى سنة 1957.
قام أثنائها بأعمال جليلة في هذا الميدان من حملات التلقيح والتطعيم، ومحاربة الأمراض التي كانت متفشية في ذلك الوقت، وبناء المستشفيات والمستوصفات، وتشكيل وحدات متنقلة للعلاج تجوب القرى والاقاليم.
وفي حكومة المرحوم السيد عبد المجيد كعبار تولى محمد عثمان الصيد حقيبتي الاقتصاد والمالية إلى أن تقلد في اكتوبر 1960 رئاسة الحكومة الليبية.
رئاسة الوزراء من 1960 إلى 1963 .VI
السياسة الداخلية
حل المصالح المشتركة *
شهدت فترة ترؤس محمد عثمان الصيد للحكومة عدة أعمال مهمة أثرت أيما تأثير في مستقبل ليبيا، فقد استهل عهده بالتعامل مع الشأن الداخلي بحل المصالح المشتركة التابعة للنقطة الرابعة الأمريكية المكلفة بالإشراف على صرف المساعدات الأمريكية، إلا انها حادت عن الهدف المنشود وأضحت تشكل دولة داخل ليبيا وتعيق عمل الحكومة الليبية.
وقد خلف هذا القرار رد فعل غاضب من الحكومة الأمريكية. غير أن رئيس الحكومة استطاع بذكاءه وهدوءه وحكمته وصبره، أن يقنع الحكومة الأمريكية أن قرار الحل هو في مصلحة بناء علاقات وطيدة وطيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، تصون كرامة الشعب الليبي. وقد أوفد الرئيس كينيدي مبعوثا خاصة للاجتماع بالمرحوم محمد عثمان الصيد. فخرج مقتنعا بصواب قراره، وقد أصبحت بفضل ذلك العلاقات الليبية الأمريكية أكثررسوخا. تجلى ذلك في الزيارة الرسمية التي قام بها ولي العهد المرحوم الحسن الرضا إلى الولايات المتحدة الأمريكية إبان رئاسة محمد عثمان الصيد للحكومة الليبية.
تعديل الدستور الليبي *
كانت أهم إنجازات محمد عثمان الصيد كرئيس الوزراء تعديل الدستور الليبي والانتقال بسلاسة وحكمة وهدوء من نظام اتحادي إلى نظام وحدوي. حيث أن الولايات الثلاث كانت تشكل ثلاث حكومات في بلد واحد وترفض التعاون والعمل تحت إشراف الحكومة المركزية. وكان من نتيجة ذلك أن أغلب قرارات الحكومة المركزية أضحت شبه معطلة.
وقد عمد محمد عثمان الصيد الى تعديل مواد الدستور وسحب صلاحيات الولايات لحساب الحكومة المركزية وتأسيس وزارة الداخلية لأول مرة في تاريخ ليبيا، مما جعل في نهاية الامر الولايات تطالب من جراء نفسها بإلغائها وإعلان الوحدة.
تعديل قانون البترول والوكالات التجارية *
نجح محمد عثمان الصيد في تعديل قانون البترول بكيفية تضمن عائدات تصل إلى خمسين بالمائة بدلا عن الثلاثين بالمائة التي كانت مقررة. كما توفق في تمكين المواطنين الليبين من التمتع بالوكالات التجارية وذلك بسن قانون يحظر على الاجانب التمتع بأكثر من خمس وكالات تجارية. كما سن محمد عثمان الصيد سياسة متطورة للمصرف الزراعي حيث بمقتضى تلك السياسة، أصبح يمنح قروض ميسرة للمواطنين الليبيين الراغبين في شراء مزارع آلت إلى ملك المعمرين الايطاليين إبان الاستعمار.
وقد نجحت هذه السياسة في جعل الليبيين يسترجعون معظم الأراضي المملوكة للأجانب بدون إثارة أية أزمات واللجوء إلى التأميم ، بل إن السفير الإيطالي نصح مواطنيه ببيع مزارعهم لأن هذه خطوة ذكية من الحكومة الليبية.
وفي سنة 1962 ، وانطلاقا من مبادئ الإسلام وإنصاف أهل الذمة، أقنع محمد عثمان الصيد الملك إدريس رحمه الله، أن العدل والإنصاف يفرض منح اليهود الليبيين الجنسية الليبية حتى يتمكنوا من مزاولة أنشطتهم التجارية و خاصة تمثيل الوكالات التجارية دون حاجتهم إلى تبني جنسيات أوروبية، كما أن هذا القرار جعلهم يشعرون بانتمائهم إلى ليبيا.
السياسة الخارجية
مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا *
كانت ليبيا بفضل السياسة الحكيمة التي انتهجها محمد عثمان الصيد تحظى بعلاقات مستقرة ومتوازنة ومثمرة سواء على الصعيد العربي أو الدولي. فقد تم بناء علاقة طيبة ووطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية توجت بزيارة ولي العهد الأمير الحسن الرضا لها في سنة 1962 وذلك بطلب من محمد عثمان الصيد.
كما أنه بنى علاقات ثقة واحترام مع المملكة البريطانية المتحدة. وتجسدت هذه الثقة في موافقة رئيس الوزراء البريطاني السيد هارولد ماكميلان على تجديد الاتفاقية المالية بين البلدين دون مفاوضات او شروط.
كانت العلاقات مع فرنسا طيبة رغم حساسية الأوضاع في الجزائر، حيث أن الرئيس شارل ديغول أوفد كونت باريس برسالة إلى الملك إدريس، سلمها إلى محمد عثمان الصيد يطلب تعاون ليبيا مع فرنسا للخروج من أزمة الجزائر ومنح هذا البلد استقلاله.
العلاقات مع مصر ودول الخليج *
حافظ محمد عثمان الصيد على علاقة متوازنة يسودها الاحترام المتبادل والعمل بعدم التدخل في شؤون الغير مع الجمهورية المصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي رغم الاختلاف السياسي بينهما وموقفه المبدئي أن ليبيا تنتمي إلى العالم الحر. كما جاء في تصريحاته سنة 1960 عند زيارته لقاعدة الملاحة “معيتيقة حالياً”، حيث قال أن هذه القاعدة بوجود القوات الامريكية، هي للدفاع عن العالم الحر وأن ليبيا جزء من العالم الحر.
كانت تعليمات الرئيس عبد الناصر، أن تتعاون الحكومة المصرية مع حكومة الصيد في جميع المجلالت دون قيد أو تحفظ، و قد استمرت علاقات الاحترام بعد سنة 1969 مع كل من الرئيسين محمد أنور السادات و حسني مبارك خاصة أن الرئيس السادات دعاه لزيارة مصر سنة 1978.
إبان اندلاع المشاكل في اليمن الشمالي وانعكاسها على أمن واستقرار السعودية، أكد موقف ليبيا الثابت والواضح والمؤيد لأمن ووحدة السعودية في رسالة وجهها إلى الملك فيصل رحمه الله، الذي جدد شكره لمحمد عثمان الصيد عند استقباله له في موسم حج سنة 1965 بعد خروجه من الحكومة. كما أنه رحمه الله بعد انقلاب سنة 1969، عرض عليه الإقامة في السعودية.وقد ظل محمد عثمان الصيد يلتقي بالملك فيصل إلى أن إغتيل رحمه الله.
و عند محاولة الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، سنة 1961، تهديد سيادة الكويت أكد محمد عثمان الصيد، للشيخ جابر الأحمد الصباح، مبعوث أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح، حرص ليبيا على أمن وسلامة الكويت وتضامنه معها.
• العلاقات مع المغرب الكبير
في عهد محمد عثمان الصيد كرئيس للحكومة تم إعادة إحياء اتفاقيات الصداقة والتعاون وتجديد العلاقة مع تونس إثر الزيارة الخاصة التي قام بها لهذه الدولة واجتماعه بالرئيس الحبيب بورقيبة.
استقلال الجزائر: واكبت حكومة محمد عثمان الصيد عملية استقلال الجزائر، حيث رعت الحكومة المؤقتة وجعلت في فترة ما طرابلس مقرا لها حفاظا على استقلالية قراراتها وتعزيز قدرتها على التفاوض مع الحكومة الفرنسية، وقد نأت حكومة محمد عثمان الصيد بليبيا عن الدخول في الصراعات الداخلية بين الأطراف الجزائرية قبل نيلها استقلالها سنة 1962.وهكذا رفض تسليم السلاح لأي من الفريقين المتنازعين خشية وقوع حرب أهلية دامية عند دخولها الجزائر إثر انسحاب القوات الفرنسية.
حفاظا على علاقة حسن الجوار وصونا للحدود والاحترام المتبادل بين البلدين وقع وزير الخارجية في حكومة محمد عثمان الصيد السيد ونيس القذافي مذكرة تفاهم مع وزير خارخية الحكومة الجزائرية المؤقتة السيد كريم قاسم، يتفق بموجبها الطرفان بتوسيع الحدود المشتركة بين البلدين وعودة الأراضي التي ضمتها فرنسا إلى الجزائر.
أحرص محمد عثمان الصيدعلى توطيد العلاقات مع دول المغرب العربي بالخصوص مع المملكة المغربية وعاهلها الملك الحسن الثاني. كان أول لقاء لهما بطرابلس سنة 1962 عند توقف الملك بمطار طرابلس في طريقه إلى مؤتمر القمة الأفريقية بالقاهرة. ودارنقاش وحوارطويل حول العالم العربي والتعاون الثنائي وتوطيد العلاقات، تلاها دعوة كريمة من الملك الحسن الثاني لمحمد عثمان الصيد لزيارة رسمية للمغرب في نوفمبر 1962 توجت بإبرام اتفاقية أخوة وتعاون بين البلدين الشقيقين.
وكانت بداية لعلاقة خاصة وطيدة بين محمد عثمان الصيد والملك المغفور له الحسن الثاني، تجلت في المحبة الكبيرة التي شمل به الملك رحمه الله السيد محمد عثمان الصيد. حيث أبى الملك رحمه الله، إلا أن يقيم السيد محمد عثمان الصيد في المغرب في ضيافته وحمايته، حيث قال الملك رحمه الله، يوم استقبله بعد الانقلاب في ليبيا سنة 1969 “أنت مغربي كنت مسافراً وعدت إلى بلدك. فأنت من اليوم من أسرتي الكبيرة ولا أريد أن أسمع أنك لست مغربي”
وقد أبي الملك محمد السادس إلا أن يسير على نهج والده. حيث أبدى احترامه وتقديره للمرحوم محمد عثمان الصيد مستفسرا عن أحواله متكفلا بعلاجه في سنوات عمره الأخيرة
وقد أوصى السيد محمد عثمان الصيد أن يدفن بالبلد الغالي عليه والحبيب إليه المغرب بمقبرة سيدي حمزة بالرباط إلى جوار قبر أبنائه سعود وخالد ونجيب وزوجته الفاضلة رحمها الله السيدة لولا سيف، التي كانت خير سند له في مشواره الطويل والتي كانت وفاتها في أكتوبر 2002، صدمة تأثر لها أيما تأثير إلى أن انتقل إلى رحمة الله في 31 ديسمبر 2007 بمنزلة بالرباط.
خاتمة .VII
تمتع محمد عثمان الصيد بصفات رجل الدولة في كل المراحل الوطنية والسياسية حيث كان عمله منصبا على خدمة الوطن وحمايته وتنميته. فقد تمكن محمد عثمان الصيد بفضل شجاعته وحكمته وهدوءه، من تجنيب ليبيا أخطرأزمة سياسية عام 1962، عندما تعرض البلد لمحاولة انقلاب قادها رئيس الأركان المرحوم السنوسي الليطيوش.
كما انه لعب دورا أساسيا في إصلاح العلاقات بين المغرب وليبيا، وكان سبباً في إيقاف دعم ليبيا لجبهة البوليساريو، وإعادة العلاقات الدبلوماسية مرتين بين الرباط وطرابلس. الأولى عام 1975 والثانية عام 1980. ظل السيد محمد عثمان الصيد ولآخر لحظات حياته ملتزما تجاه الوطن ولم يعتزل عمله الوطني. ودأب وهو في المغرب الشقيق على متابعة الشأن الليبي ساعيا إلى الإصلاح ما أمكنه ذلك بالضغط بالتي هي أحسن على نظام القذافي.
وقد وجه للعقيد القذافي رسالة مؤرخة بتاريخ نوفمبر 2003 يدعوه فيها إلى الالتفات إلى ليبيا ومواطنيها والبدء بعملية الإصلاح. وكانت هذه الرسالة بداية النهاية لنظام القذافي، حيث أظهرت مدى ضعف هذا النظام وهشاشته وعدم تماسكه وقرب نهايته. وفرضت عليه الدخول في عملية الإصلاح، وهي لغة لا يتقنها هذا النظام إذ جعلته يلعب في معترك ليس له. فأصبح تائها يتخبط يمنة ويسرة ويضيع في صراع الأجنحة. فأصبح واهنا ضعيفا إلى أن انتفض المواطنون في فبراير 2011.